المحور الأول: الحراك التجاني والعولمة
عنوان المحاضرة: الرسالة التجانية في عصر العولمة
المحاضر: الأستـاذ التجاني عــاد – الوادي، الجزائر.
الحمد لله رب العالمين ، اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم .
أيها الشيوخ الأفاضل والعلماء الأكارم
ضيوفنا الأعزاء
الجمع المبـارك
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، وبعد :
فمما لا شك فيه أن العالم اليوم يشهد عصر التكتلات على مستوى القارات والدول والمنظمات...وغير ذلك ،هذا التكتل كوّن قوى عظمى تتنافس على السيادة والهيمنة العالمية في كل المجالات والميادين ، مما جعل عالم اليوم يموج في أزمات ومحن ويصارع ألوانا من الكوارث والفتن ، ويتخبط في ظلمات الإلحاد والكفر ،ويعاني صراعات عقائدية ويمارس انحرافات أخلاقية ،ويعيش تحت نظام الغاب حيث يأكل القوي الضعيف تحث شعار "البقاء للأقوى".
فهذه التغيرات والصراعات الموجودة في العالم اليوم كانت لها انعكاسات خطيرة على الشعوب والمجتمعات فأصبحت بشرية هذا الزمان تعاني نوعا من الإفلاس الروحي والانحلال الأخلاقي والانهيار الاقتصادي والإلحاد الفكري .
كما كانت لهاته الثورة العولمية العالمية انعكاساتها على الجانب الديني المتمثل في دين الإسلام، ولا شك أن الإسلام منذ بزوغ فجره على يد أفضل الخلق ومعلم الناس الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ،جاء للبشرية بمشروع حضاري متكامل استطاع أن ينقذ الناس من الظلمات إلى النور ، فقامت حضارة الإسلام على أسس متينة متعاونة إيجابا تمحورت في أربعة عناصر أساسية هي :الربانية ،الإخاء الإنساني ، الشمول ، المنهجية العلمية.
فالربانية صلة بين الإنسان وربه.
والإخاء صلة بين الإنسان وأخيه الإنسان .
والشمول صلة بين الإنسان والكون.
والمنهجية العلمية بمفهومها الإسلامي الذي يجمع بين الوحي والعقل ،طريقة للتعامل بنورين من الوحي والعقل مع الكون والإنسان.
والملاحظ في عصر اليوم أن العالم في أمس الحاجة إلى مقاييس جديدة تحكمه وتزيل ما يعانيه من أزمات فكرية واجتماعية واقتصادية وخلقية ، وإلى قوانين ونظم توفر له الأمن والسلام وتحقق له العدل والمساواة ،وترفع عنه الظلم والطغيان ،ولا شك أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يعيد الإنسانية إلى المسار الصحيح وإلى الطريق المستقيم ، فكما أنقذ البشرية في الماضي وحررها من الظلم ومن كل الخرافات والانحرافات والضلالات ،فهو قادر على إنقاذها اليوم مما تتردى إليه من الدمار والانحطاط ،ويحقق لها مثلها العليا ،وإنسانيتها الكاملة،وفطرتها الخالصة ،وذروة سعادتها ،وجماع أهدافها ،ذلك لأن الإسلام هو الرسالة الخاتمة التي أنزلت بعد أن اكتمل للبشرية نضجها وإدراكها ،وأنها الرسالة السماوية الوحيدة التي عالجت قضايا البشرية والإنسانية بصورة شاملة ،حيث رعت متطلبات الروح والجسد من غير أن يطغى أحدهما على حساب الآخر ،فهو نظام يقوم على العدل والمساواة لا على أهواء الناس ،قال الله تعالى: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} (سورة المائدة،الآية: 49).
فقد صنع الإسلام حضارة لم تر الإنسانية لها من قبل ولا من بعد مثيلا في نشر العلم والمعرفة والعدل والمساواة والسلام في كل مكان حل فيه.
إلا أن الأمة الإسلامية بوضعها الحالي المحرج ،لن يكون لها دور الطليعة والقيادة في هذا العالم – كما كان لأسلافها في الماضي- ما لم تعد إلى أصالتها وحضارتها فتعالج ما أصابها من وهن وذل وهوان ،وتحقق وحدتها ،وتسترد كرامتها المهدرة،ودورها القيادي والحضاري مصداقا لقوله تعالى: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} (سورة آل عمران ،الآية :110).
فهذا الوصف لهذه الأمة يدل دلالة واضحة على أن لها دورا يختلف عن أدوار الأمم الأخرى ،فهذه الأمة أخرجت للناس ، فدورها دور يختص بالناس لأنها أخرجت لهم ،والصانع هو الله تعالى ،فهو بحكمته الخالصة وبرحمته بالناس صنع لهم هذه الأمة فأحسن صنعها وإخراجها ، وأعطاها الدور الذي لا يجدر بأمة غيرها أن تحمله ،ألا وهو دور الطليعة والقيادة ،والمثال المحتذى ،وبما أن الله تعالى هو أحسن الخالقين يصفها بأنها خير أمة فلابد أن تكون كذلك.
ولكن المتتبع لواقع الحياة المعاصرة يجد أن هناك تطورا وتحولا كبيرا في مجال العلم المادي ،حيث أن الإنسان يقف مشدوها أمام هذه الثورة التكنولوجية التي أبهرت العقول .
بيد أنه وعلى الرغم من كل هذا الإبداع والابتكار ،سادت الحياة البشرية المعاصرة العديد من المشاكل والمصائب فأصبحت الحياة الإنسانية غير مستقرة وغير آمنة ،وهذا راجع إلى سيطرة النزعة المادية على الإنسان ،الأمر الذي أثر سلبا على واقع المجتمع الإسلامي المعاصر .
وبعد البحث والتمحيص والتشخيص في الواقع ،وصل العلماء والمفكرون إلى أن لب القضية التي تعيشها الأمة ومصيبتها الكبرى يرجع إلى حب الدنيا وكراهية الموت.وهذا مصداقا لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم
يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل :ومن قلة نحن يومئذ ؟قال:بل أنتم يومئذ كثير ،ولكنكم غثاء كغثاء السيل ،ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ،فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟قال:حب الدنيا وكراهية الموت). [رواه أبو داود في سننه ،كتاب الملاحم – باب في تداعي الأمم على الإسلام ،ج:2،ص:210].
والذي يعالج هاتين القضيتين هو علم التصوف الذي يقوم أساسا على تزكية النفوس وتطهير القلوب وتصفيتها من الأمراض والأغراض ،ويخلصها من حب الدنيا وكراهية الموت ويربطها برضا الله تعالى.
إنه المنهج الرباني الذي يجمع بين معانقة الحق ومخالطة الخلق ،ويصلح الفرد والمجتمع والأمة دينا ودنيا.
وعليه فطريق التصوف أصبح ضرورة حتمية لإنقاذ الأمة وإخراجها من ظلمات النزوات والنزعات والشهوات إلى نور الأمن والسلام والاطمئنان والسعادة والاستقرار الحياتي.
وفلسفة الحياة تقتضي من الإنسان أن يسير وفق منهج سوي ثابت ومعتدل ،يتلاءم مع متطلبات العصر ،ويوفق بين الجانبين المادي والروحي مما يجعله صالحا لكل زمان ومكان وحال.
وهذا ما تتضمنه طريقتنا المباركة ،فمنذ بزوغ شمسها وبروزها إلى عالم الوجود ما فتئت محافظة على جوهر الإسلام اعتقادا وعملا وسلوكا، وتمثل ذلك في اللمسة التجديدية التي أحدثها الشيخ الأكبر سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه والتي مست مضمون المنظومة الدينية بأركانها الثلاثة الأساسية (الإسلام-الإيمان-الإحسان).
فلقد أحيا الشيخ الأكبر رضي الله عنه رسالة الدين الإسلامي وحضارته بعد أن أميت القيم والمبادئ والتعاليم السامية ، وأعاد لها دور الطليعة والقيادة ،ويظهر ذلك جليا من خلال رسائله ووصاياه وأقواله المبثوثة في أمهات كتب الطريقة وخاصة منها كتاب جواهر المعاني لسيدي علي حرازم ، كما واصل حمل مشعل هذه الرسالة خليفته من بعده الشيخ سيدي الحاج علي التماسيني رضي الله عنه الذي نظر لمنظومة حياتية جامعة مانعة جعلها صالحة لكل زمان ومكان وحال،والتي تمثلت في المقولة الذهبية الخالدة :"اللويحة والمسيحة والسبيحة" وتعني :العلم والعمل والعبادة ،فقد لخص رضي الله عنه منهج ورسالة شيخه القطب المكتوم رضي الله عنه في هاته العبارة النورانية ،التي أوضحت أسس المنهج الرباني المنقذ من الفساد والضلال والإضلال،كما ضمنت استمرارية المهمة الأزلية للإسلام. { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (سورة يوسف،الآية:108).
وقد سار على هذا النهج خلفاء التماسيني رضي الله عنهم من بعده فظل لواء الإسلام والطريقة عاليا شامخا .
وفي هذا العصر نرى الخليفة الحالي الشيخ الدكتور سيدي محمد العيد التجاني التماسيني رضي الله عنه يسعى جاهدا من أجل تثبيت وإرساء هذا المنهج الرباني بجوانبه الثلاثة:علما وعملا وعبادة.
وبما أننا لسنا وحدنا في هذا العالم ،بل تربطنا علاقات وأحكام أسرية واجتماعية ووطنية ودولية ،الأمر الذي يقتضي منا التفاعل والتجاوب معها من أجل المحافظة على ديناميكية نظام الحياة البشرية.
وكما أسلفنا الحديث في أول المحاضرة ،أن العالم اليوم ظهرت فيه جملة من المعطيات المعرفية والعلمية الجديدة ،فكان لزاما على الطريقة دخولها في هذا الجانب- لأنها جزء من العالم- ؛كونها تحمل مشعل الرسالة الربانية الحضارية العالمية .
وقد أكرمنا الله تعالى بالشيخ الدكتور سيدي محمد العيد التجاني التماسيني –حفظه الله- في هذا الزمن العصيب الذي تلاطمت فيه الأمواج وتقاربت المسافات ،بعد أن ذابت فيه الهويات وانخرمت فيه قاعدة الأصول على الضوابط المعروفة ليعلمنا أبعاد الخطاب النافع والهادف في هذا العصر،وقد جعل الله سبحانه وتعالى لهذا الإمام والقدوة لسان صدق في هذا الزمن ضمن سنة كونية أبدعها العليم الحكيم.
ونظرا لما دعت إليه الضرورة الحتمية للتكتلات العالمية والصراعات الفكرية القائمة التي تدعو إلى الحوار نهض الخليفة سيدي محمد العيد التجاني التماسيني –أمده الله بعونه- ليقول كلمته وليبلغ رسالته الداعية إلى وحدة الصف الأحمدي والتكتل ضمن اختصاصات للحوار مع الآخر،فقد قال سيدنا رضي الله عنه في محاضرته التي ألقاها في الملتقى الدولي للطريقة التجانية بالمغرب
...رجال الطريقة التجانية رسل محبة وسلام وإصلاح وإحسان...).
فالخليفة التماسيني –أيده الله بنصره -بفكره الرباني المؤيد أراد أن يقوم بنهضة علمية عالمية يسعى من خلالها إلى إعادة الصيغة للرسالة النبوية بنظام العصر المتمثل في التكتلات والاختصاصات .
فنشأت بذلك حركة علمية دبت في نفوس الشباب الأحمدي والتي حملت شكل النوادي العلمية التخصصية وهي : (نادي الشريعة –نادي الأدب-نادي التاريخ –نادي التكنولوجيا-نادي علم النفس-نادي الاقتصاد-نادي السماع الصوفي ... )،وهناك نوادي أخرى قيد التشكيل والهيكلة ، وقد أثبت الشباب من خلالها رسوخه في العقيدة وإيمانه الجازم والقوي بالمبدأ والمنهج المتبع وسعيه الحثيث في خدمة دار الخلافة التي هي امتداد لدار النبوة ،وبعبارة أخرى خدمة منهج الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي جاء لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
وخلاصة الكلام نستطيع القول أن الخطاب العالمي الجديد بكل ما يحمله من أفكار وثقافات ومعطيات وممارسات واستراتيجيات يهدف إلى التحكم في سيرورة النظام البشري وفق منازعه الاستغلالية والهيمنية ،مهملا أو متجاهلا أخلاقيات ومبادئ هذا النظام الإنساني الكوني القائم على التعارف والحوار والتفاعل والتخاطب والتواصل عملا بقوله سبحانه وتعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (سورة الحجرات،الآية:13).
لذا كان لزاما على الأمة الإسلامية أن تقابل هذا الخطاب بخطاب عالمي معاصر، لكنه يحمل رسالة حضارية نافعة للإنسانية ،وهو مشروع الخليفة الدكتور سيدي محمد العيد التجاني التماسيني –أدام الله عمره- الذي يريد من خلاله إحياء التراث الحضاري الإسلامي وإعادة الدور الرسالي والقيادي للأمة المحمدية ، مستمسكا بنور وصية الشيخ الأكبر رضي الله عنه :"بسير زمانك سر"، وممتثلا للمقولة الخالدة للخليفة الأعظم سيدي الحاج علي التماسيني رضي الله عنه :"اللويحة والمسيحة والسبيحة "وتعني :العلم والعمل والعبادة، وسائرا على شعاره –حفظه الله- "الترتيب والتنظيم والانضباط ".
وهذا ما يظهر من خلال بصماته التجديدية التي جمع فيها بين الأصالة والمعاصرة، والتي من أبرزها تشييده وتدشينه للمجمع الثقافي العلمي بالزاوية التجانية بقمار الذي هو امتداد للمجمع الثقافي العلمي بالزاوية التجانية التماسينية.
وعليه يجب أن نكون في مستوى ما يأمل ويطمح إليه شيخنا وخليفتنا وأستاذنا الدكتور سيدي محمد العيد التجاني التماسيني–أمده الله بعونه- في العمل على سعادة الجماعة البشرية، وإقامة المجتمع الإنساني الذي يدعو إلى الإصلاح وحفظ الحياة وتجنب شوائب النقص ومظاهر الفساد ،وبث روح المحبة والسلام والإحسان، ونشر ثقافة المصالحة والمسامحة والتعايش السلمي بين أفراد الإنسانية ،وذلك تحقيقا للخلافة في الأرض التي جاء الدستور السماوي داعيا إلى النهوض بها والمحافظة عليها ، إذ يقول الحق تبارك وتعالى في بيان ذلك :
{هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } (سورة هود ، الآية:61).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات،الآية:13).
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (سورة الذاريات ،الآية:56).
لتكون بذلك الطريقة قوة الغد العالمية ،وما ذلك على الله بعزيز .
{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } (سورة التوبة ،الآية:105).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
المراجع المعتمدة:
محاضرة للأستاذ محمد بلبشير بعنوان: "الإسلام وصراع الحضارات في القرن الخامس عشر"، مجلة الإحياء، العدد الثامن،1425 هـ - 2004 م، جامعة باتنة.
محاضرة للأستاذ قادة بن علي بعنوان: "حاجة الإنسانية إلى الإسلام ماضيا وحاضرا ومستقبلا"، مجلة الإحياء، العدد الثامن ،1425هـ - 2004 م، جامعة باتنة.